كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الضرب الثاني: دهن هو طيب ومنه: دهن الورد، والمذهب عندهم: وجوب الفدية فيه، وقيل فيه وجهان. ومنه: دهن البنفسج، فعلى القول بأن نفس البنفسج: لا فدية فيه، فدهنه أولى، وعلى أن فيه الفدية، فدهنه كدهن الورد، والأدهان كثيرة، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن، ونبت طيب الرائحة والخيري، وهو معرب، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي: خيري البر، ومذهب الشافعي: أن الأدهان المذكورة، ونحوها طِيب، تجب باستعماله الفِدْية.
واعلم: أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب: إذا كان استعمله عامدًا، فإن كان ناسيا أو ألقته الريح عليه، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء، إن لم يكف الماء، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة، بخلاف غسل النجاسة، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجِب الفدية، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية.
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإن كان فيه زينة كره عندهم: كالإثمد، وإن كان بما لا زينة فيه: كالتوتيا الأبيض فلا كراهة.
وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمرحم: ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر، أو يجعله في ثوبه، أو بدنه، وسواء كان الثوب مما ينفض الطيب، أم لم يكن.
قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود، والند، ولا يجوز أن يجعل شيئًا من الطيب في بدنه، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه، وكان الثوب لا ينفض، فلا شيء عليه، وإن كان ينفض لزمته الفدية. اهـ منه.
والظّاهر المنع مطلقًا لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران، وكل هذه الصور يصدق فيها: أنه مسه ورس أو زعفران، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم للطيب كما تقدم، والعلمث عند الله تعالى.
وقال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا: أن الزيت، والشيرج، والسمن، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته.
وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته.
وقال مالك: لا يجوز أن يدْهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه، واليدين، والرجلين، ويجوز دهن الباطنة: وهي ما يوارى باللباس.
وقال أبو حنيفة: كقولنا في السمن والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعمالهما في الرأس والبدن.
وقال أحمد: إن ادهن بزيت أو شيرج: فلا فدية في أصح الروايتين، سواء دهن يديه أو رأسه.
وقال داود: يجوز دهن رأسه، ولحيته، وبدنه بدهن غير مطيب.
وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك: فقد قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو ظاهر الفقيه، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملا ءقالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، أنبأ أبو سلمة الخزاعي، أنبأ حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» يعني غير مطيب، مل يذكر ابن يوسف تفسيره. قال الإمام أحمد: ورواه الأسود بن عامر شاذان، عن حماد بن سملة، عن فرقد، عن سعيد، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير. اهـ. منه: ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه مر عليه قوم محرمون، وقد تشققت أرجلهم فقال: ادهنوها. وفرقد المذكور في سند هذا الحديث، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة: أبو يعقوب البصري، وهو معروف بالزهد والعبادة. ولَكِنه ضعّفه غير واحد. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق عابد، لَكِنه لين الحديث كثير الخطأ. وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» رواه الترمذي والبيهقي، وهو ضعيف. وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال الترمذي: هو ضعيف غريب، لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد. وقوله: غير مقتت: أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه.
وفي القاموس: وزيت مقتت طبخ بالرياحين أو خلط بأدهان طيبة، واحتجاج الشافعية بهذا الحديث الذي ذكرنا على جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما فيه أمران:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، لضعف فرقد المذكور.
والثاني: أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن، لأن الأدهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية. اهـ.
وحجة من منع الأدهان بغير الطيب، لأنه يزيل الشعث الحديث الذي فيه «انظروا إلى عبادي جاؤوا شعثًا غبرًا» وهو مشهور، وفيه دليل على أنه لا ينبغي إزالة الشعث، ولا التنظيف. والله أعلم.
وقال النووي في شرح المهذب: قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن. قال: وأجمع عوام أهل العلم، على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن، قال: وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه.
وقال النووي أيضًا: الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق: ولا فدية، وبه قال مالك، وأحمد، وداود. وقد قدمنا أن الخِضاب بالحناء: يوجب الفدية عند المالكية، ثم قال النووي: وقال أبو حنيفة: هو طيب يوجب الفدية، وإذا لبس ثوبًا معصفرًا: فلا فدية، والعصفر: ليس بطيب هذا مذهبنا، وبه قال أحمد وداود، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وجابر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء، قال: وكرهه عمر بن الخطاب، وممن تبعه الثوري ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: إن نفض على البدن: وجبت الفدية، وإلا وجبت صدقة. انتهى محل الغرض منه.
وقال النووي أيضًا: ذكرنا أن مذهبنا في تحريم الرياحين قولان: الأصح تحريمها، ووجوب الفدية، وبه قال ابن عمر، وجابر، والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة، إلا أن مالكًا، وأبا حنيفة يقولان: يحرم ولا فدية.
قال ابن المنذر: واختلف في الفدية، عن عطاء وأحمد، وممن جوزه وقال: هو حلال لا فدية فيه: عثمان، وابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد وإسحاق، قال العبدري: وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال النووي أيضًا: قد ذكرنا أن مذهبنا: جواز جلوس المحرم، عند العطار: ولا فدية فيه. وبه قال ابن المنذر، قال: وأوجب عطاء فيه الفدية، وكره ذلك مالك. انتهى منه.
واعلم: أن المحرم عند الشافعية، إذا فعل شيئًا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلًا، فإن كان إتلافًا كقتل الصيد والحلق والقلم، فالمذهب وجوب الفدية، وفيه خلاف ضعيف. وإن كان استمتاعًا محضًا: كالتطيب، واللباس، ودهن الرأس واللحية، والقبلة، وسائر مقدمات الجماع: فلا فدية، وإن جامع ناسيا أو جاهلًا: فلا فدية في الأصح أيضًا.
قال النووي: وبهذا قال عطاء، والثوري وإسحاق وداود. وقال مالك، وأبو حنيفة، والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه: عليه الفدية، وقاسوه على قتل الصيد.
وقد قدمنا حكم المجامع ناسيا وأقوال الأئمة فيه. هذا هو حاصل كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم، ومنهم الأئمة الأربعة في مسألة الطيب. وقد علمت من النقول التي ذكرنا عن الأئمة وغيرهم، من فقهاء الأمصار، ما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه.
واعلم: أنهم مجمعون على منع الطيب للمحرم في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في أشياء كثيرة، اختلافًا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط. فيقول بعضهم مثلًا: الريحان والياسمين، كلاهما طيب فمناط تحريمهما، على المحرم موجود، وهو كونهما طيبًا، فيخالفه الآخر، ويقول: مناط التحريم، ليس موجودًا فيهما، لأنهما لا يُتخذ منهما الطيب، فليسا بطيب وهكذا.
واعلم: أنهم متفقون على لزوم الفدية في استعمال الطيب، ولا دليل من كتاب ولا سنة، على أن من استعمل الطيب، وهو محرم يلزمه فدية، ولَكِنهم قاسوا الطيب على حلق الرأس المنصوص على الفدية فيه، إن وقع لعذر في آية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
وأظهر أقوال أهل العلم: أن الفدية اللازمة كفدية الأذى وهي على التخيير المذكور في الآية، لأنها هي حكم الأصل المقيس عليه، والمقرر في الأصول أنه لابد من اتفاق الفرع المقيس، والأصل المقيس عليه في الحكم وذلك هو مذهب أبي حنيفة، إن كان التطيب، أو اللبس لعذر، لأن الآية نزلت في العذر. وقد قدمنا أنه هو الصحيح من مذهب الشافعي مطلقًا كان لعذر أو غيره، وهو أيضًا مذهب مالك وأحمد.
فتحصل: أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقون على أن فدية الطيب، وتغطية الرأس، واللبس، وتقليم الأظافر، كفدية حلق الرأس المنصوصة في آية الفدية؟ وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى، وقدمنا الأقوال المخالفة لهذا المذهب الصحيح المشهور عند الأربعة. وقد بينا أنه مقتضى الأصول، لوجوب اتفاق الأصل والفرع في الحكم، والعلم عند الله تعالى.
تنبيهان:
الأول: في ذكر أشياء مما ذكر وردت فيها نصوص، وتفصيل ذلك: فمن ذلك العصفر وقد رأيت في النقول التي ذكرنا كثرة من قال من أهل العلم: بأنه ليس بطيب، وأنه لا بأس بلبس المحرم له، وقد قدمنا فيه حديث أبي داود المصرح بأنه لا بأس بلبس النساء له، وهن محرمات، وفيه ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالسماع، فعلم أنه لم يدلس فيه إلى آخر ما قدمنا فيه، والظاهر بحسب الدليل: أن المعصفر لا يجوز لبسه، وإن جوزه كثير من أجلاَّء العلماء من الصحابة ومن بعدهم، لأن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحق بالاتباع.
وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن يحيى، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث: أن ابن معدان أخبره: أن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخبره قال «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبَسْها»اهـ.
وابن معدان المذكور: هو خالد كما ثبت في صحيح مسلم بعد الحديث المذكور مباشرة، وفي لفظ لمسلم بإسناد، غير الأول، عن عبد الله بن عمرو قال «رأى صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين، فقال: أأمك أُمَرْتك بهذا؟ قلتُ: أغسِلُهُمَا قال: بلْ أحرِقْهُما».
وقال مسلم في صحيحه آنفًا: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس القسيِّ، والمعصفر، وعن تختم الذهب وعن قراءة القرآن في الركوع» وفي لفظ لمسلم، عن علي رضي الله عنه «نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة، وأنا راكع، وعن لبس الذهب، والمعصفر» وفي لفظ لمسلم عنه أيضًا رضي الله عنه «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب، وعن لباس القسى، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر» اهـ منه.
فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم، وغيره عن صحابيين جليلين، وهما علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، صريح في منع لبس المعصفر مطلقًا، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو «إنهما من ثياب الكفار فلا تلبسهما» صريح في منع لبسهما، لأن النهي يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول، ويؤيد ذلك هنا أنه رتب النيه عنهما على أنهما من ثياب الكفار، وهذا دليل واضح على منع لبس المعصفر مطلقًا في الإحرام وغيره. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو «بل أحرقهما» فهو دليل واضح على منع لبسهما لأنُ لبس الجائز لبسه، لا يستوجب الإحراق بحال، فهو نص في منع المعصفر مطلقًا، وقول على رضي الله عنه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسِّيِّ والمعصفر، وعن تختم الذهب» الحديث دليل أيضًا على منع لبس المعصفر مطلقًا. لأن النهي يقتضي التحريم، إلا لدليل صارف عنه، وليس موجودًا، ويؤيده أنه قرنه بالتختم بالذهب، وهو ممنوع، وما زعمه بعض أهل العلم: من أن رواية على المذكورة آنفًا في مسلم «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم» تدل على اختصاص هذا الحكم، بعلي لأنه قال: نهاني بياء المتكلم في الرواية المذكورة، مردود من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم بين في حديث ابن عمرو عموم هذا الحكم، حيث قال لعبد الله «إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسها» وهذا صريح في عدم اختصاص هذا الحكم، بعلي رضي الله عنه.
الوجه الثاني: أنه ثبت في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس القسي، والمعصفر وعن تختم الذهب» بحذف مفعول نهى، وحذف المفعول في ذلك، يدل على عموم الحكم، على التحقيق كما حرره القرافي في شرح التنقيح من أن مثل نهى صلى الله عليه وسلم عن كذا صيغة عموم بما لا يدع مجالًا للشك؟ وممن انتصر لذلك: ابن الحاجب وغيره، واختاره الفهري.
والحاصل: أن التحقيق في مثل نهى صلى الله عليه وسلم، عن بيع الغرر وقضى بالشفعة، وقضى بالشهد واليمين ونحو ذلك: أنه يعم كل غرر وكل شفعة، وكل شاهد، ويمين، وإن خالف في ذلك كثير من الأصوليين، كما حررنا أدلة الفريقين، وناقشناها في غير هذا الموضع.
الوجه الثّالث: أن رواية نهاني التي احتج بها مدعي اختصاص هذا الحكم بعلي: تدل أيضًا على عموم الحكم، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاصّ يجب الرجوع إليه، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم، خلاف في حال لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من الشّافعية، والمالكية وغيرهم: أن خطاب الواحد لا يعم، لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعًا، فلا يكون صيغة عموم، ولَكِن أهل هذا القول موافقون: على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره لَكِن بدليل آخر غير خطاب الواحد، وذلك الدليل بالنص والقياس. أما القياس فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي والنص، كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء «إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة».
قالوا: ومن أدلة ذلك حديث: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة».
قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات: اعلم أن حديث: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» لا يعرف له أصل بهذا اللفظ، ولَكِن روى الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، قوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء «إني لا أصافحُ النساء» وساق الحديث كما ذكرناه.
وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الألباس، عما اشتهر من الأحاديث، على ألسنة الناس: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة، وفي لفظ: كحكمي على الجماعة، ليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال العراقي: في تخريج أحاديث البيضاوي.
وقال في الدرد كالزّركشي لا يعرف، وسئل عنه المزّي، والذهبي فأنكراه. نعم يشهد له ما رواه الترمذي، والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة، فلفظ النسائي «ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة» ولفظ الترمذي «إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجهما، لثبوتهما على شرطهما.
وقال ابن قاسم العبادي في شرح الورقات الكبير: حكمي على الجماعة، لا يعرف له أصل، إلى آخره قريبًا مما ذكرنا عنه. اهـ.